على طاولتي الخشبية، حيث تنحسر أصوات الأمس ويذوب ضجيجُ اليوم، أجلس كل صباحٍ أراقب ما حولي. النباتات تملأ المكان بخُضرتها الواثقة، تتشابك أوراقها كأنها تهمس لبعضها بأسرار النهار، وكل ورقة تحمل حكاية صغيرة عن الليل الذي مضى، عن أحاديث الطيور، وعن النسيم الذي مرّ. ومن خلف الزجاج، تمتد شرفتي التي تتدلّى منها ورود الياسمين العراقي، عطرها يسافر بخفة بين المساحات، يختبئ أحيانًا في شعوري، يذكرني بلحظات هادئة لم تخطر على بالي، ويُعيد إلى الذاكرة ذكريات صغيرة كانت تختبئ في صمت الأيام.
في هذا الركن الذي صار جزءًا من روحي، تبدو الأشياء ساكنة: كوب زجاجي على الطاولة، ورقة صغيرة، ظلّ ناعم يتمدّد على الخشب. منذ دقائق، دخلت خيوطُ النور عبر النافذة، مرّت عبر النباتات ورقصت فوق الكوب، وتسلّلت تحت الحافة، فنشأ ظلٌ ناعمٌ على سطح الطاولة. توقّفت الأنفاس للحظة. ورأيت: الضوء يُحيي الراكِد. الزجاج الذي يبدو ساكنًا صار مرآةً للضوء.. مرآة تُذكّر أن هناك حركة خلف السكون، يتحوّل كل شيء إلى حياةٍ صغيرة تُقام في صمت. الضوء يوقظ الراكِد دون أن يلمسه، كأنه يقول للأشياء: ما زلتُم هنا، وما زال فيكم أثرٌ من البدايات. والكوب الذي لم يتحرّك منذ الأمس، يصير مرآةً لكل لحظة عبرت من هنا .. فنجان قهوةٍ دافئ، ضحكة عابرة، حديثٌ لم يكتمل، دمعةٌ لم تُعلن.
أحيانًا، نتعامل مع الأشياء الراكدة وكأنها بلا شأن، كأنها “توقّفت” عن العطاء. لكن الحقيقة أن في سكونها يُمكن أن تتراكم طاقاتٌ، انفعالاتٌ، ذكريات، وفِي هدوئها تستقي نصَ الحياة. ذلك الكوب، ربما حمل مئات الشفتين، آلاف الكلمات التي لم تُقال، فنجانُ قهوة، دمعةٌ حانية، ضحكةٌ مبطّنة. وتلك التفاصيل تجمّعت داخل شفّاته. حين وقفت عليه أشعة الشمس، بدا لي أنه يحتضن كل ما مضى، ويرحّب بما سيأتي.
تعلمت من الضوء أن السكون ليس غياب الحركة، بل مساحة تتنفس فيها الحياة بهدوء. أن الأشياء التي لا تصدر صوتًا، لا يعني أنها لا تتكلم، بل ربما تتحدث بلغةٍ لا تُسمع إلا حين نصغي. أفكر أحيانًا أن الراكِد فينا .. تلك الأحلام المؤجّلة، الذكريات التي نخبئها بعناية .. كلها تنتظر لحظة ضوء، لحظة اعترافٍ بسيطة، كي تعود فتزهر كما يفعل الياسمين كل صباح.
أتأمل حركة الشمس فوق الشرفة، كيف تتغيّر الزوايا، وكيف تتغير ظلال النباتات والكوب والكتب، وكيف أن هذه الحركة الهادئة تجعلني أرى تفاصيلٍ صغيرة كنت أغفل عنها. أحيانًا، مجرد شعور بلمسة الشمس على يدي يكفي لإعادة ترتيب يومي كله، لإعادة إشعال طاقة لم أكن أعلم أنني أحتاجها.
القيمة في السكون
لذلك؛ كل ما في حياتنا يبدو راكدًا ليس بالضرورة بلا قيمة. ذكرياتنا، أحلامنا المؤجلة، علاقاتنا الصغيرة، وحتى لحظات الحزن والسكوت .. كلها تحمل فرصة للنمو، للتعلم، ولرؤية الأمور بوضوح. كل ما نحتاجه هو الانتباه، والوعي، والضوء الذي ندخله إلى حياتنا بوعينا الصادق.
في نهاية هذا الصباح، رفعت نظري إلى الشرفة، فرأيت الشمس تلامس أطراف الورد، ورأيتني أهدأ قليلًا، كما لو أن الضوء علّمني أن أعيش ببطءٍ أكثر، وأن أسمح للأشياء أن تتحرك بطريقتها الخاصة ، دون استعجال.
قل لي أنت:
هل هناك شيء راكد في حياتك… ينتظر أن يمرّ عليه ضوءك؟ ربما رسالة لم تُكتب، فكرة نائمة، قلب يحتاج دفئك، أو حلم نسيت الاهتمام به. اكتب لي، أو اكتبه لنفسك.. فالاعتراف أولُ ضوءٍ يوقظ الأشياء، والتأمل فيه يجعلنا نرى الحياة بألوانٍ أوسع، وروح أعمق.
3 تعليقات
رائعة يا عائش ♥️
شكرًا نوره💙
شكراً لكلماتك الدافئة