في مديح الحياة البطيئة أكتب للهدوء والسكينة، مستشعرةً النسيم الذي يتخلل خلاياي، وأشعة الشمس وهي تداعب ثناياي.
نجلس هنا متأمّلين المنظر أمامنا. تتحرك السحب ويسترسل شعاع القمر على صفحة البحر. تصفّر الرياح عبر غابات الصنوبر وكأنها حشد من البشر يكنسون الأرض معا. أغرفُ حفنة رمل وأدعها تنسلّ من بين أصابعي، وأكتشف أن الصمت هو شيء يُمكنك حقا سماعه.
في حياتي كنت أعتزم الهدوء دائمًا في كل شيء، لا أركض خلف الحياة بإرهاق، ولا أُهمل تفصيل فيها، فأجعل الأشياء تمر مني لا حولي. وعلى مرور سنوات عمري الآن أستقر على أريكتي أكتب تدوينة وعقلي مليء بالضجيج رغم السكون. وهذا بالضبط ما أفضله، أن أكون في سكون تام رِفقة ضجيج عقلي، وكلما كان السكون مسيطرًا على ما حولي أُفسح لأفكاري مكانًا للضجيج، فأوازنها بعلاقة عكسية غريبة. ضجيج الأفكار يساويه هدوء المكان، ضجيج المكان يساويه هدوء الأفكار.
والضجيج هنا هو ضجيج الفكر حول النفس والوجود والحياة، وهذا الضجيج بالذات مُثمر، لكن ضجيج النفس المُشقي للذات والذي كأنه آتٍ من هاوية؛ ضجيج قاتل.. يقول مارك توين: لن تجد الهدوء أبدًا، إن كان مصدر الضجيج أعماقك.
في اقتباس صادفني بالأمس شاركته في صفحتي على X من كتاب هاروكي يقول فيه: ألا تشعرين بالملل وأنتِ هنا وحدك؟
لتُجيب البطلة قائلةً: لدي أشياء للتفكير فيها.
وهذا الاقتباس يكاد ينضح باسمي من قوة ما يصفني به، لدي دائمًا الكثير من الأشياء لأفكر فيها، لذلك دائمًا أنا وحدي ولا أشعر بالملل جراء ذلك.
أول خطوة في العيش البطيء المُستقر والهادئ، أن تتعامل مع ثنايا روحك بعمق، أن تستمع جيدًا وتنصت لتفهم سر الضجيج، فتكون في خير كثير. في تدوينتي السابقة طابع رومانسيّ، مُدهش! تحدثت برومانسيّة عن الموضوع والآن لأفصل قليلًا فيها.
العيش البطيء والذي هو عنوان لهذه التدوينة، أستهلها بمقدمة تمس جانبًا بعيد من عنواني لكنه ذات أهمية كبرى، وستفهمون وجهة نظري حينما ننتهي سويةً من القراءة
يقول غاندي: يوجد في الحياة ما هو أهم من زيادة سرعتها.
وهذا سرٌ كبير في الحياة، أن تعيش ببطء، أن تتنفس بعمق، أن تتخفف من أعباء كُثر من علاقات ومشاعر وحياة مُثقلة.
المؤلم بالأمر أن الجميع يتمنى أن تمضي الأيام وينسى الكثير بأن هذه الأيام من أعمارنا، منذ استوعبت هذه الفكرة وأنا أستشعر مكان صفعتها!
فالحياة سطحية تمامًا لو كانت من أجل الجري والركض حول الوظيفة والمال والعلاقات، والمؤلم بأن ثلاثة أرباع ما سبق ذكره لا يستحق ذلك. تذكر فقط نفسك أكثر مَن يستحق.
وحتى تصل لهدوء في العيش، ترتيب الأولويات يُصفي بالك بشكل كبير، لأن أولوياتك تُحدد ما الأهم بالنسبة لك، فحينما تقول لشيء ما نعم أنت تُهمني ومُهم لي فهُنا حددت شيء ترغب به حقًا بعد تفكير، وللشيء العارض الذي لا يملك فارقًا وعلى العكس يعود علي بسوء فهذا خارج دائرة الأهمية والأولويات.
وتابعًا لهذا، ترتيب الأولويات والأهميات في الحياة سيصنع منك شخصًا هادئ وُمستقر وأستطيع أن أقول هذه أول مرحلة للعيش الهادئ البطيء
هذه الحياة سرٌ كبير متجدد لكن الأبسط من هذا كله، هذه الحياة مليئة بالتفاصيل التي تجعلنا نتنهد ومهما ما كثرت أشغالنا وواجباتنا في خضم حياة سريعة نحتاج أن نتوقف. العيش البطيء يجعلنا نتمهل، فمثلًا: في لحظة مشيك لا تفكر لا تجري وراء الفكرة فالفكرة، بل تمهل وتأمل، تأمل ما حولك الناس وهم يسيرون، الطفل وهو يضحك لأنه حصل على قطعة حلوى، تأمل الشمس وهي تعكس بأشعتها على كل الأشياء فتكوّن مشهدًا لا يتكرر، حتى لو في أفضل فلم. تأمل حركة الشجر المخلفة صوتًا يجعلنا غارقين في سكون.. صوت الطبيعة بالأخص صوت العصافير والشجر والناس والقطط صوت الحياة بأكملها، هذا الصوت أسميه موسيقى الحياة، الموسيقى التي لن يستطيع تقليد تأليفها أحد، ولن يقدر على صنع أفضل منها أحدٌ أبد!
يقول كارل أونوريه قولًا بديع وعميق: الحياة أقصر من أن نعيشها بسرعة.
الحياة أقصر من أن نبددها بتعجل ومشاكل شتى وألم وتوجع الحياة أقصر بكثير من كل هذا.
وعلى الطرف الآخر يقول سيلارز: “كان يذكر نفسه على الدوام بأن حياته وجيزة مقارنة باتساع الزمن، وأنها صغيرة مقارنة باكتمال الكون.
الحياة في مجملها جميلة هادئة، وفيها الكثير من اللحظات التي تفوتنا في حياتنا فتندثر وتمضي الأيام وتمضي السنين ونحن في نفس المكان نجري تتسرب الحياة من أيدينا ككوب مسكوب، ولو استطعنا أن نرى شكلًا لنا من بعيد ونحن نجري لضحكنا. نحن ذلك الشخص في الفلم والذي طوال الوقت يجري من العمل إلى المنزل ينام يتناول القهوة على عجالة متناسيًا جمال قهوته وكوبه، متجاهلًا بديع طريقه الذي يمشي فيه، ونحن المتفرجون ننبهر في المكان والتفاصيل عوضًا عنه.. لذلك هذه حياتنا نحن نجري وغيرنا يرى حياتنا وينبهر وهكذا..
استشعر الأشياء، ابدأ من نفسك، وتأمل كل ما حولك، وطالما أنك كنت تتأمل فستجد السعادة تُحيط بك وتنهمر عليك؛ لأنك بدأت تلاحظ.
يقول الفيلسوف ماركوس أوريليوس: حافظ على هدوئك وسكونك بغض النظر عما تحمله لك الحياة.
الحياة ليست سباقًا، تمهلوا، تخففوا، استقروا، عيشوا.
8 تعليقات