في كل جمعة، أقلّب صفحاته لأصل لنفس الموضع الذي يدله قلبي، نفس الصفحة، نفس السورة… سورة الكهف.
في زحام الأسبوع وتقلباته، تأتي الجمعة حاملة معها لحظة راحة وسكينة لكامل الأسبوع، وسورة الكهف فيها، تخاطب الروح حين تُرهق من الدنيا، وتُثقِلها الأيام.
ومثلي كما كثير من حولي تربينا منذ نعومة أطرافنا على قراءتها بحكم العادة ولأن والدنا كانا يقولان هذا… لكن عمرًا بعد عمر أصبحت أتأملها أكثر وأستشعر كل آية أُرتلها، ليس كواجب أسبوعي، بل كمكان أرجع إليه. كهفٌ أختبئ فيه، وأجد فيه من النور ما يكفيني حتى الجمعة القادمة.
هُنا تأملاتي الخفيفة والتي أفتح فيها نوافذ النور، ومدارسة لا تدّعي العلم، لكنها تشبه حديث الروح مع القرآن.
ونبدأ في هذه التأملات بقول أفضل البشر عليه أفضل الصلاة والسلام:
“من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له من النور ما بين الجمعتين“
وفي حديثه عليه السلام قد يبدو الوعد بالنور شيئًا معنويًا أو رمزيًا، لكنه في العمق هو وعد بالحماية. نور يضيء الطريق، ينقذك من التعثر وسط العتمة، ويُرشد بصيرتك حين يزداد ضجيج الحياة.
وكأن هذا النور ليس مجرد “أجر”، بل رعاية تمتد على مدار أسبوع كامل.
أحيانًا، ونحن نغرق في روتين الأيام، نحتاج تذكيرًا بأننا لسنا وحدنا، وأن الله سبحانه رزقنا مساحات للراحة، للتثبيت، للطمأنينة… وسورة الكهف في يوم الجمعة هي واحدة من هذه المساحات.
الجمعة محطة. فرصة لتصفية الداخل، والتزوّد للسباق الذي يبدأ مجددًا بعد غروبها.
وفي وسط هذا التوقيت المزدحم بالدعوات والخُطب والاستعدادات،
تأتي سورة الكهف لتمنحنا لحظة صمت… نتأمل، نُبصر، ونستعيد الهدوء.
لماذا “الكهف”؟
الكهف ليس مجرد عنوان لسورة، بل هو مفتاح فهمها.
الكهف، في اللغة والحياة، هو مكان خفي، مظلم، لكنه آمن.
مكان تنقطع فيه عن الناس، لا هروبًا فقط، بل حمايةً لنفسك من فتنة لا تملك أمامها حيلة.
في أول قصة بالسورة، نُعرّف على “فتية آمنوا بربهم“، ما امتلكوا لا جيشًا ولا سلطة… فقط إيمان وقرار:
“فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته“
لم يكن الكهف هو الحل، بل وسيلة للنجاة، ليكون الله هو الحامي، والنور في الظلمة.
الرمزية تتكرر في السورة:
كل قصة فيها حالة من “الاختبار”، لكن الحل لا يكون دائمًا بالمواجهة المباشرة،
أحيانًا الحل أن تنسحب لتبصر، أن تصمت لتفهم، أن تنتظر حتى يُكشف لك المعنى.
والكهف، كمكان، يعكس ذلك.
في عزلته تتضح الرؤية.
في سكونه نسمع صوتنا الداخلي، ونلتقط الإشارات التي لا تُرى وسط ضجيج الحياة.
ربما هذا هو سر السورة…
أنها تهمس لنا: لا بأس أن تنسحب قليلًا لتنجو، لا بأس أن تبحث عن كهفك،
فطالما كان الله معك، فالعزلة نور، لا ظلمة.
تذكروا ليست كل عزلة عزوفًا عن الحياة…
أحيانًا تكون تدريبًا على العودة بقلب أنقى، ونظر أعمق، وصوتٍ لا يعلو… لكنه يصل.
الجمعة هي جسر بين الأرض والسماء
تتداخل في هذا اليوم خطبةٌ، صلاةٌ جامعة، دعاءٌ مستجاب، وسورةٌ مخصوصة. وكأن الجمعة تُراد أن تكون إعادة ضبط شاملة. في قلبها تأتي الكهف، سورة أحداثها كلّها على الأرض، لتعلّمك كيف تعبر الأرض إلى السماء وأنت ما زلت فيها.
الفتن الأربع: حين تكشف لك السورة مرآتك
سورة الكهف لا تُخبرك بقصص للتسلية، بل تُريك عبر كل قصة وجهًا من وجوه الفتنة…
كأنها تقول لك في كل جمعة:
“ما الذي يختبر قلبك هذه الأيام؟”
- فتنة الدين – قصة أصحاب الكهف
شباب صغار، لا سند لهم، ولا جمهور يصفّق، فقط قلوب مؤمنة وسط مجتمع يُضيّق عليهم حتى في عبادتهم.
هربوا لا ضعفًا، بل حفاظًا على فطرتهم…
فكانت فتنتهم في الثبات على الدين، والإيمان حين يصبح مستهجَنًا.
في زمن تتقلب فيه المعايير، وتُهاجَم فيه القيم، يبقى السؤال:
هل تجرؤ أن تؤمن… ولو كنت وحدك؟
- فتنة المال – قصة صاحب الجنتين
رجل مُنح جنّتين، ماءً جاريًا، وثمارًا لا تفنى… لكن النعمة جعلته أعمى عن المنعِم.
نظر لصاحبه باستعلاء، وتفاخر بما يملك، ونسي أن الزوال ممكنٌ بكلمة.
سُرعان ما قال له الله:
“فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها…”
الفتنة ليست في المال، بل في أن تعتقد أنه يحميك، أو أنه دائم.
هل ترى النعمة على أنها أمان؟ أم اختبار؟
- فتنة العلم – قصة موسى والخضر
نبيٌ كريم، يسأل رجلًا غريبًا أن يعلمه مما عُلِّم…
وكل مشهد من الرحلة كان صادمًا للعقل والمنطق.
فغُرقت سفينة، وقُتل غلام، وبُني جدار بلا أجر.
العِلم هنا ليس معلومة… بل حكمة من وراء ما لا نفهمه.
تقول السورة:
ليس كل ما لا تفهمه خطأ، وليس كل ما يخالفك جهلًا.
فهل فيك تواضع موسى حين قال:
“هل أتبعك على أن تعلّمنِ…”؟
- فتنة السلطة – قصة ذو القرنين
ملكٌ عادل، لم يكن هدفه الغزو، بل الإصلاح.
يبني السد، ويحاور القوم، ويرد القوة إلى الله:
“هذا رحمة من ربي“
السلطة لم تفسده… لأنه لم يتكئ عليها، بل استخدمها لأجل الناس، لا لأجل نفسه.
في زمن يُختبر فيه الناس بالمناصب، والقدرة على التأثير، تذكّر:
هل ما تملكه يبني؟ أم يُخيف؟ أم يُنسيك من أنت؟
حين تقرأ سورة الكهف، لا تمرّ على القصص وكأنك تسمع حكاية بعيدة…
بل اسأل نفسك في نهاية كل جمعة:
أي فتنة أعيشها أنا اليوم؟ وأي قصة تُعلمني كيف أخرج منها؟
فالسورة لا تعطيك الجواب دفعة واحدة، لكنها تضيء لك الطريق…
قطعة قطعة، قصة قصة، جمعة بعد جمعة.
في نهاية كل أسبوع، تمدّ سورة الكهف يدها لتأخذنا قليلًا خارج ضجيج العالم، نحو مساحة رحبة من الطمأنينة والتبصّر. تضع أمامنا مرآةً نرى فيها فتننا كما هي، وتمنحنا في كل قصة مفتاحًا للنجاة. ليس المطلوب أن نخرج من التلاوة بكمٍّ من المعلومات، بل بقدرٍ من النور يرافقنا حتى الجمعة القادمة.
بعد أن تُغلق المصحف هذا الأسبوع…
أيّ فتنةٍ وجدت السورة تهمس لك بمعالجتها أولًا؟
شارك نفسك التدوين، أو شاركني هنا في التعليقات لنتدارس النور معًا.
أتمنى لكم جمعة مباركة، وكهفٌ يملؤوه النور والرحمة.
5 تعليقات
آآآه ابدعتِ وجدتِ وانرتِ ♥️
وشكرًا لقراءتكِ، أنرتي فاطمة🤍
ابدعتي سلمت اناملك كلمات جدا رائعة وموضوع متميز وعبارات رنانة وتفصيل وشرح وإسهاب لجمال سورة الكهف
لاحرمنا من جمال ابداعك
ولا حرمت من دعمك الدائم حبيبة قلبي، تعلمت من الأفضل🤍
alert(‘بسم الله نبدأ’)