حينما صافحتني الشمس

حينما صافحتني الشمس

بواسطة أحرف عائشة

كان اليوم الأول في حياتي الجديدة، اليوم الأول الذي أُطلق عليه “دوام” استيقظت باكرًا والرهبة والحماسة تسبقني، حماسة التحديات التي تنتظرني، ورهبة أن أكون جزءًا من المدينة بجدّيتها الصارمة وازدحامها الذي لا يلين.

حين دخلت المترو لأول مرة، شعرت وكأني ألج مسرحًا هائلًا. أفواج من الناس تتدفق بلا انقطاع؛ بعضهم يهرول بعجلة، وبعضهم يتكئ على تعب، آخرون غارقون في هواتفهم، وشفاه كثيرة تتحرك بأذكار وأدعية الصباح. كل واحد منهم غارق في عالمه، وأنا كنت الغريبة الصغيرة التي تلتقط تفاصيل المشهد بعينين مندهشتين لعالم كبير.

سكون المكان لم يكسره سوى صوت “آنسة المترو” بنبرتها الآلية وهي تعلن عن المحطات، وصوت احتكاك العجلات الحديدية بالأرض وهي تنزلق مسرعة، كأنها تزحف بي نحو حياة جديدة. جلست بجانب النافذة، أمد يدي للشمس وهي تتسلل بأشعتها الذهبية ، أمد أصابعي لألتقط خيوطها، وأبتسم لظلالها المتراقصة، ألمحها وهي تتنقل بين الوجوه والظلال، تاركتًا خلفها وهجًا من حياة. تترك على أصابعي بريقًا يجعلني أبتسم بلا سبب، كأنها تذكّرني أن للحياة وجهًا بسيطًا وجميلًا مهما ازدحمت.

انتهى دوام اليوم الأول، فخرجت بخطوات مثقلة. أمامي طريق طويل نحو الحافلة، إحدى عشرة دقيقة من السير وسط شوارع الرياض. لكن الله كان أرحم من كل شيء، إذ ظهرت غيومًا بيضاء تحجب وهج الشمس وتخفف عني قيظ الرياض. شعرت وكأنها رفيقة خفية تمسك بيدي وترافقني في المسير.

وصلت إلى محطة الانتظار. دقائق معدودة وجاءت الحافلة، صعدت وجلست، تراقب عيناي من النافذة طرقًا تتلو طرقًا، وسيارات تتدفق كالسيل. وعندما ترجلت، كان عليّ أن أقطع شارعًا صاخبًا، مزدحمًا حتى الضجر.

وهناك لمحْتُها لأول مرة،  فتاة ترتدي طرحة خضراء، يتمايل طرفها مع الريح. رأيت بنطالها الأخضر أيضًا، فظننتها ممرضة في طريقها للمنزل. تبعتها بخطوات مترددة، توقعت أنها ستشق لي الطريق وسط هدير السيارات. لكنها، مثلما اكتشفت سريعًا، كانت متوترة مثلي، تنتظر الفرصة للعبور.

صرنا نحن الاثنتين واقفتين على الرصيف، محاصرتين بضجيج السيارات المسرعة. وفجأة، دوّى صوت رجل بلكنة هندية: “تقدمن يا سيدات!”، صرخ بصوت جهوري وكأنه يملك سلطة على الزحام، ففتح لنا فجوة صغيرة وسط الشارع. ابتسمنا بخجل، وتقدّمنا معًا. وفي لحظة أثناء سيري المسرع كنت على وشك السقوط، فالتفتت نحوي وصاحت: “انتبهي!” وابتسمت خجلًا يشوبه الخوف.

عبرنا معًا، غريبتين تتشاركان الموقف ذاته والبسمة تعلو شفاهنا بعد أن نجونا من فوضى الشارع.

تبادلنا كلمات عابرة. هي تشكو من ازدحام الرياض وحرارتها، وأنا أبتسم وأقول: “لا بأس، إنها مرتي الأولى أصلًا، لم أكمل أسبوعي بعد في شركتي الجديدة.” عندها سألتني عن ماهية عملي وبعد اجابتي نظرت إليّ بدهشة، وقالت: “عملك يبدو رائعًا ومميزًا فعلًا.” كان في صوتها حماس طفولي يجعلني أرى حياتي من منظور أجمل. سارت بجانبي تسألني عن عملي أكثر وتندهش من تفاصيله، فأنبهر بدوري من حماسها للحياة. بدت كنسمة عابرة في عصرٍ خانق.

ثم سألتني فجأة: “من أين أنتِ؟” وقبل أن أجيب قاطعتني ضاحكة: “من الغربيّة، أليس كذلك؟”

ابتسمت بدهشة: “كيف عرفتِ؟”

فأجابت بابتسامة واثقة: “ابتسامتك، أهل الحجاز يُعرفون بابتسامتهم، بانفتاحهم على الناس، بروحهم المتقبلة للحياة.” ابتسمتُ أكثر، وقلت في نفسي: يا لكرم هذا التمييز.

واصلنا السير معًا حتى صرنا كصديقتين قديمتين. تحدثنا عن العمل والأحلام، عن التعب والفرح، عن البدايات الجديدة. كانت كلماتها عفوية، تخرج صافية، تبعث في قلبي سرورًا لا يوصف. شعرت وكأنها غيمة أخرى، غيمة بشرية هذه المرة، جاءت لتظلل نهار يومي الحار.

حين وصلنا إلى محطة المترو، وقفت بوابتي على غير بوابتها. التفتت إليّ مبتسمة، وقالت: “أنا سارة.”

اسمٌ بسيط، يبرر لمَ كانت بهذه الخفة والتي بعثت بداخلي كل هذا السرور. لوّحت لي بيدها ورحلت، وغابت وسط الزحام. لمحتها من بعيد تترجل في محطة أخرى.

وأنا أقول في نفسي: كان موقفًا عابرًا لغريبتين تلتقيان في مدينة تضج بالحياة لكنه حمل في قلبي أثرًا عميقًا لا يُنسى.

وبقيتُ أنا، أراقب الناس وظلالهم الممدودة على الأرض، والشمس التي ما زالت تتسلل بذهبيتها لتذكرني أن لكل نهار جماله الخاص، ونهايته التي تلوح لنا على وعد للقاء قادم قريب.

وهكذا، كما هي الحال دائمًا في الدنيا: يمر الأشخاص ونمر، يمضون ونمضي. لكن ما يبقى، هو الأثر، هو الذكرى، وهو تلك اللحظة الصغيرة التي تلمس روحك وتذكّرك أنك ما زلتِ حيّة، تسيرين في زحام المدن، وتبتسمين.

3 تعليقات

هيا بنت محمد سبتمبر 15, 2025 - 6:02 م

المرة الاولى التي أقرأ لك وكأني الظل الثالث لكما
اسمع وارى واشعر من خلال الحرف كيف كان يومكما كيف هو مرهق طويل لكن الغرق في التفاصيل الجميلة جعلته يوما فريدا بحق .ابدعتِ عائشة اتمنى لك الطريق الميسر والعمل الثري بالجمال والخير ..اكتبِ لنا عن القطارات وجمال الشمس والرفقة .نحن بنتظار سارات كثر.

رد
هيا بنت محمد سبتمبر 15, 2025 - 6:03 م

المرة الاولى التي أقرأ لك وكأني الظل الثالث لكما
اسمع وارى واشعر من خلال الحرف كيف كان يومكما كيف هو مرهق طويل لكن الغرق في التفاصيل الجميلة جعلته يوما فريدا بحق .ابدعتِ عائشة اتمنى لك الطريق الميسر والعمل الثري بالجمال والخير ..اكتبِ لنا عن القطارات وجمال الشمس والرفقة .نحن بنتظار سارات كثر .دمت بود

رد
أحرف عائشة سبتمبر 16, 2025 - 7:59 ص

شاكرة للطفك عزيزتي هيا، وتشرفني هذه القراءة وهذا الرد الطيب.

رد

اترك رداً على أحرف عائشة إلغاء الرد

منشورات مقترحة

-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00